عندما تتأمل تاريخ الشعب المصرى تجده مملوء بالثورات
وحركات التحرر على فترات , فأنا لن أستشهد بثورتهم على
حكم الهكسوس ولا بثورتهم على حكم الفرس لهم ,
ولا بمحاولات سيدنا موسى ليخلصهم من فرعون وجنوده ,
ولا بسعى الفراعنة للتخلص من حكم اليونانيين والرومان ,
ولا بمحاولاتهم للتخلص من حكم الفاطميين والمماليك
ولكنى سأكتفى بثورات العصر الحديث .
وأولى ثورات العصر الحديث تلك التى أتت بمحمد على باشا
واليا على مصر تحت مظلة الدولة العثمانية ,
تلك الثورة التى ظهر فيها الشعب المصرى لأول مرة فى تاريخة
وهو يختار حاكمه وإن كان من غير المصريين ,
وفى هذه الثورة شعر المصريون بالروح الوطنية والقدرة على لتغيير ,
وعرفوا أن بإمكانهم فعل هذا التغيير .
ولم يدر بخلدهم وهم فى غمرة النشوة والفرح أن حاكمهم الذى اختاروه
سيتحول إلى مهيمن وقاهر لإرادتهم حتى وإن أسس دولة حديثة ,
ولا أعتقد أبدا أنه خطر ببالهم أن أسباب ثورتهم سوف تعود مرة أخرى .
وهذا نفس الشعور الذى يجتاح مصر الآن بعد ثورة 25 يناير ,
فهل ستتشابه النتائج كما تشابهت المقدمات ؟
لقد سهل أحفاد محمد على دخول الإنجليز إلى مصر ,
فثار عليهم الجيش بقيادة محمود سامى البارودى وأحمد عرابى ,
ولكن الثورة أجهضت .
وخرجت مصر كلها خلف سعد زغلول ورفاقه عام 1919م
فى محاولة لإثبات الوجود , واقتناص فرصة للتحرر من الاستعمار ,
وكان المشهد رائعا بحق , تجلت فيه كل صور الوطنية ,
تماما كما حدث فى 25 يناير , ورضخ الانجليز للثورة كما رضخ حسنى مبارك ,
ولكن التحرر من الإنجليز لم يكن مكتملا ,
وعرف الملك كيف يجهض التيار الوطنى لصالح الإنجليز ,
فهل يا ترى ستتشابه النتائج كما تشابهت المقدمات ؟
وهل مكتوب على هذا الشعب ألا يهنأ بثوراته التى يقدم فيها أبناءه ثمنا للحرية ؟
وعندما قام الجيش بثورته عام 1952م والتف الشعب حوله ,
وكان الشعب يأمل بتسليم الحكم للمدنيين ,
ولكن الجيش استمرأ السلطة وتشبث بها , ولم يلتفت لأمانى الشعب ,
وأصبح الشعب أسيرا لدى الثورة عشرات السنوات ,
وبات حكم مصر مقصورا على رجال الجيش ,
وحرمت مصر من الاستفادة من الكثير من عقول أبنائها لعشرات السنين.
وعلى عكس هذه المقدمات جاءت ثورة 25 يناير ,
فالشعب هو الذى قام بالثورة , ثم أيده الجيش وحماه ,
وتعهد بتسليم السلطة للرئيس المنتخب ,
وهذه سابقة ستدخل المجلس الأعلى للقوات المسلحة التاريخ من الباب الواسع .
وفى كل هذه الثورات كان الشعور الشعبى جارفا حالما بانتهاء القهر
والظلم والحرمان , ولكن يصاب هذا الشعب دائما فى حاكمه الذى سرعان
ما يتسلط ويتخلص من معارضيه , ويجد من الشعب من يعبد له طريق
الديكتاتورية والسلطة المطلقة .
حتى الرئيس السادات الذى بدأ حكمه بثورة تصحيح لمسار ثورة يوليو 1952م ,
أنهى حكمه بسجون ممتلئة بالعقول المفكرة قبل أن يغتال .
وكل هذا يدفعنا إلى أن تساءل عن إمكانية كون فرعون المذكور
فى القرآن الكريم ليس مجرد شخص وإنما هو حالة ترتبط بطبيعة
الشخصية المصرية التى تستعذب فرعنة حاكمها ,
وتعطيه قدرا من التبجيل تجعله هو نفسه يعتقد فى نفسه
التفرد والسمو على الشعب , ويجد لأهوائه استجابة لدى الشعب ,
وربما لهذا لم يذكر القرآن اسم فرعون واكتفى بلفظ فرعون للدلالة
على هذه الظاهرة المصرية التى تكررت على مدى تاريخ مصر .
ونحن من المحظوظين الذين عاصروا قيام ثورة تعمل على إزالة نظام وإنشاء
نظام آخر , وهذا لم يتوفر لأجيال عديدة , ومن حظنا أننا سنشهد
وجه الحاكم الجديد الغض بعد الثورة قبل يكتسب خبرات الفرعنة ومستلزماتها ,
ومن حظنا أننا سنشهد خطواته الأولى التى سيكون فيها
حاكما عاديا يجد من يقول له أخطأت وفاتك الصواب ,
وكذلك سنشهد من سيقطرون له من أطراف اللسان حلاوة ,
ويقلبون له الحق باطلا , ويصورون له لعثماته بلاغة , وخطرفاته منطقا ,
وبطئه حكمة , ولكننا لن نتركهم بفعلهم ,
وعلى الشعب كله أن يكشف زيفهم ونفاقهم ,
يجب أن نعمل جميعا على تحطيم آلة صنع الفراعين التى برعنا فى استعمالها
والتحكم فيها عن بعد , بالله عليكم يا شعب مصر كفانا فراعين .
المصدر :مدونة الرايا
0 التعليقات:
إرسال تعليق